2009/09/03

أنا حزين (8).. تهويد «حق العودة»..

(ياسر قشلق)
سألت مرةً شاباً فلسطينيّاً في لبنان عن «حق (ـه) العودة»، فابتسم وأجابني: هل يعقل أن أترك بلاداً عشتها وعاشتني، بيروت، وأنتقل لسكنى فلسطين التي أنتسب إليها فقط بهويتي!القصة طبعاً ليست جديدة، كما أنها لم تعد تشكل، مع الأسف، صدمةً لدى سماعها، فكثيراً ما تتداولها ألسن بعض اللاجئين الفلسطينيين هنا وهناك، خاصةً ضمن الأوساط الشابة.. وللتنويه أقول: لست أذكرها في هذا المقام لانتقاد اللاجئ الفلسطيني أيّاً كان، فباعتقادي ذلك من نافل القول في هذه السطور العجولة، إنما أذكرها لأني أرى التخلي عن «حق العودة» لدى البعض بات أمراً «طبيعيّاً» حدود «الميوعة» المثيرة للاشمئزاز والخوف في آن، الخوف من انتشارها كوباء لا يمكن لجمه، ما دفعني أخيراً إلى التفكّر قليلاً في هذا التشظي الذي يحياه اللاجئ بين هويّته الأصلية، فلسطين، وبين موطن(ـه) الآخر الذي ربما ولد وقضى عمره فيه.




بدايةً؛ لو نحن بحثنا عن أساس المشكلة ونظرنا بصورةٍ خاطفةٍ على الوضع الفلسطيني بشكل عام، لتلمسنا «اختزالاً» ظالماً وغريباً يمارسه الجميع، ومنذ عقود، بحق القضية الفلسطينية، فأنت قليلاً ما تسمع كلاماً مسهباً عن مشكلة اللاجئ الفلسطيني في بلاد الشتات -علماً أنها المشكلة الأولى الناتجة عن قيام إسرائيل- سواء أكان ذلك على المستوى الرسمي، أو على مستوى الإعلام، أو حتى ضمن الأوساط الثقافية المختلفة، لدرجة أنك حين ترى هذا «التجاهل» المستمر لمشكلة اللاجئ مقابل التداول الكبير لمشكلة القدس والحدود.. تقف حائراً أمام سلسلة تساؤلات ملحة من قبيل: متى وكيف تردّى «حق العودة» لهذا الدرك الخطير؟ ومن المسؤول عن ذلك نحن أم عدوّنا؟ وإن كنا من يتحمل المسؤولية؛ كيف يمكن حقن الوعي الفلسطيني من جديد ليعود «حق العودة» بداهةً تمارس قولاً وفعلاً؟ وإن كان عدوّنا، كيف تمكّن منّا –نحن اللاجئين- بهذه السهولة الغير متناسبة أبداً مع ما نعانيه اليوم وعاناه آباؤنا طوال ستين عاماً من صفة «لاجئ»؟.. إلى آخره من أسئلةٍ ربما لا تنتهي. وإن انتهت تبقى معلقة برسم إجابات قد تكون مؤلمة، بل وجارحة كوننا شركاء رئيسيون لما انتهينا إليه حتى لو دفعنا لفعل ذلك الشيطان نفسه. ورغم قناعتي أننا مسؤولون بدرجة كبيرة عما نعانيه، إلا أنّي سأتناول المشكلة من زاوية مختلفة أركّز من خلالها على الآلية التي نتعاطى فيها مع ممارسات العدو الصهيوني، وسأضرب مثالاً على ذلك مسألة «تهويد القدس».والسؤال: هل فعلاً إسرائيل تقتصر على تهويد القدس؟ بالطبع لا؛ فمدننا الفلسطينية كلّها قد «هوّدت» ولم نحرّك ساكناً لمنع حدوث ذلك! إذاً السؤال الأهم هنا: هل القدس بالنسبة لنا مدينة مقدسة أكثر من عكا أو طبريا أو صفد حتى نمارس الدفاع عنها فقط؟!ربما هي كذلك بالنسبة لأي مسلم أو عربي آخر وهذا شأنه، لكن بالنسبة لنا؟! باعتقادي إنها خطيئة -بل وجريمة حتى- أن تكون القدس بنظر الفلسطيني أقدس من أي مدينة فلسطينية أخرى.. ففلسطين كلها مقدسة بكل حبة رملٍ فيها سواء أكانت مقدسية أم غير ذلك، ولعمري متى بدأ الفلسطيني يفاضل بين قدسية مدنه بدأ أولى الدرجات على سلم الانحدار، انحداره. أكثر من ذلك؛ لقد تردّينا لهذا المستوى المخجل، من جهة الحفاظ على حقوقنا، يوم اعتقدنا أن إسرائيل «تهوّد» مدناً فقط، وتحركنا لمواجهتها على هذا الأساس الخاطئ، قطعاً لا؛ فإسرائيل لا تفعل ذلك فقط، ولو كان الأمر يقتصر على تلك الحدود لما كان هناك أية مشكلة، لكن المشكلة أن إسرائيل تمارس نوعاً آخر من التهويد بالتساوق مع تهويد المدن، أقصد «تهويد الوعي الفلسطيني».. فهي لا تطرد المقدسي من منزله، إلا بعد يقينها أن حواجزها وخيّالتها وضغوطاتها غير المألوفة طردت القدس كلها من وعيه، وهنا مكمن الخطورة، حيث إن تفكير هذا الطريد بالعودة يصاحبه تفكيرٌ بجميع منغصات العيش الإسرائيلية التي سترافقها، ما يدفعه في كثيرٍ من الأحيان إلى التنازل عن حقه أمام كل هذا التشويه للوعي الذي مورس بحقه..وقس مثال «تهويد القدس» على بناء المستوطنات، وعلى «الجدار العازل»، وعلى الأمن.. بل على كل قضايانا الفلسطينية.. باختصار؛ يمكن أن نستشف من هذه الأمثلة وغيرها أننا نفتقر لأية «استراتيجية فكرية» تمكّنا من مواجهة الزخم الصهيوني المنظم منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، ففي مقابل ظهور «الحركة الصهيونية»، مثلاً، وتوحيدها وصهرها لمختلف القوميات العالمية في دولة «إسرائيل»، تجدنا نحن وقد فرّخنا عشرات الأحزاب والحركات والمنظمات دون وجود أي استراتيجية واضحة لأحدها، بل على العكس يمكن وصف مجمل تحركاتنا ضد إسرائيل أنها «فوضوية» بل وأحياناً «غوغائية» تغيب عنها أية فاعلية.وبالنتيجة؛ نواجه اليوم خطر نسيان حقوقنا، كامل حقوقنا، لأننا ما عملنا يوماً على إبقائها في الذاكرة بينما تمكن عدونا من ذلك.. وبالتالي قد لا يكون سقوط «حق العودة» من وعي اللاجئ الفلسطيني ذنب اللاجئ نفسه بوصفه فرداً ضمن «قضية عظيمة»، وإنما هو ذنبنا جميعاً بوصفنا نحن هذه «القضية العظيمة» التي يتهددها «التهويد الصهيوني» اليوم بكليتها.

ليست هناك تعليقات: