2010/01/06

«الخيمة» على طريق عودتنا..

(ياسر قشلق)
حين كنت طفلاً، كان جدي رحمه الله يتحدث بشوقٍ وحزنٍ عن «الخيمة»! كان يتمنى لو أن جميع اللاجئين يعودون إليها كتلةً واحدة ترفض العيش تحت سطوح الإسمنت! كنت أسأله وصورة الخيمة في الأرض الغبراء حاضرةً أمامي، كيف تتمنى عودتنا إليها ونحن نعيش في بيوتٍ تقينا قسوة العراء؟! كان يجيبني باقتضاب يزيد في حيرتي: «أفسدنا الإسمنت وطريق عودتنا يمر بالخيمة»!






لم أستطع أن أفهمه وقتها، لم أستطع أن أدرك بأعوامي القليلة أن «الخيمة» تبقي الأمل مفتوحاً، لم أدرك أن بيوت الإسمنت كانت تطعن فينا أمل العودة وترميه صريعاً على قارعة اللجوء الطويل.
ومضت السنين.. ومضت بيوتنا في تطورها.. ومضى وهم الاستقرار في بلاد اللجوء ينمو فينا ليصبح كذبةً بحجم أسطورة أنستنا أن مكاننا هذا مكانٌ مؤقت لا يستحق إلا سكناً مؤقتاً.. أنستنا أنه لا يستحق أكثر من «خيمة» تهددها السماء..!


ومضت السنين أكثر، وتطورنا أكثر، حتى ثوارنا القدامى تخلوا عن «الخيمة»، قالوا عنها: «لا تعبر عن القضية»، أصبح الإسمنت هو القضية! وكلما كان «الفصيل إسمنتياً» أكثر من غيره، كان تعبيره عن القضية أكبر من غيره..!
تطورنا أكثر من ذلك.. تخشبت أصابع الثوار وصدئت بنادقهم، عادي، فالإسمنت هو القضية، وثوارنا تعلموا بعد فوزهم بالسلطة جميع استخداماته، شيدوا فيه مبانٍ رئاسية شامخة، مقار أمنية راسخة على أرض زائلة، سجون ذات طريقٍ واحدٍ للدخول فقط، فللاً وقصوراً يستجمون بها بعد مفاوضةٍ على السراب أو مقاومةٍ لطواحين الهواء..! تعلموا بناء كل شيء، لكنهم نسوا أن يتعلموا كيف يكون البناء في القضية..!


وبعد؛ جاء اليوم الذي أصبح فيه لكل فصيلٍ قضية، لفتح قضية، ولحماس قضية أخرى.. وحذار إن أيدت يوماً قضية أحدهما وأنت في «بلاد» الآخر، أو إن وقفت ضدهما معاً، حذار! فهؤلاء لن يدركوا أنك ضد انقسامهما فقط، وضد حيرتهما أين ومتى يتصالحون، حذار فهؤلاء لن يدركوا أنك مع فلسطين، وستتهم وقتها أنك ضد القضية..!


في «الخيمة» نعيش قلق اللجوء، والثائر يخرج منها فقط بوصفها مأساة لجوئه المؤقت، ولا يخرج أبداً من بيتٍ بحيطان ملساء تشظي له انتماؤه، فالمأساة هي من تصنع الرجال والرجال يصنعون التاريخ. ولمن ينكر ذلك ليرجع إلى انطلاقة فتح حين شكلت رحم الثورة الفلسطينية، أو إلى تاريخ حماس حين أعادت ضخ الدماء بعروق المقاومة الفلسطينية يوم ولادتها، وليقارن ثوابت الأمس بتحولات اليوم، ولنحاول جميعاً إعادة اكتشاف أنفسنا بعد تجارب «الإسمنت» التي خضناها.


أخيراً؛ ليست الخيمة خيمةً، ولا الإسمنت إسمنتاً، الخيمة تجربة عشناها ومن وحيها صنعنا بأسنا الذي حفر تاريخ فلسطين في وجدان الإنسانية، والإسمنت تجربة أخرى كان يمكن لها أن تعبد الطريق الذي فتحته الخيمة لولا استغراقنا بما أفرزه من ميزات عارضة بدأت بالمال ولم تنته بالمنصب.
وطالما نحن قادرون على الحياة فإننا قادرون على إبقاء «أمل العودة مفتوحاً»، ليس بـ«الخيمة»، طبعاً لا، إنما عبر استحضار تجربتها حتى وإن كنّا في قصور إسمنتية.
طيّب الله ثراك يا جدي

ليست هناك تعليقات: