2011/07/28

الرجل الذي لم يستحم سوى مرة واحدة في حياته

ياسر قشلق
(ياسر قشلق)
الشمعة التي يجب أن أشعلها حتى لا ألعن الظلام باهظة الثمن. وأنا حقاً لا أملك ثمنها. كل ما لدي هو عود ثقابٍ أخير نسيت لماذا أحتفظ به إلى اليوم، وما أنسانيه إلا الخوف أن أشعله.
قالت لي امرأةٌ ايرلندية مكتنزةٌ بالشحوم والمبادئ: إن على العرب أن يتمسكوا بالثوابت! ربما لم تكن قد ولدت بعد حين قال- المأفون- هيروقليطس: إن «التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة»، وإنها «لا تستطيع أن تغتسل في ماء النهر مرتين»! أو ربما كانت قد ولدت لكنها كانت مصابة بالتهاب الزائدة المبدئية حين قال المأفون ما قال فلم تسمع أهم الدروس التي ألقاها في حضرة التاريخ عن الثوابت والسخرية أيضاً.


أما أنا فقد حضرت كل الدروس يا صديقتي الإيرلندية المكتنزة، حضرت دروس السياسة والفلسفة وحتى الجنس.
قالت لي: لماذا لم تصبح زير نساءٍ إذا أيها الفحل؟!




لم أجبها، فقد ادّعيت لها أنني حضرت كل الدروس، وخجلت أن أقول: إني لم أحضر دروس الخيانة.
داريت خجلي أمامها أن أشغلت نفسي بتأمل خريطة كاملة لفلسطين، تحسست عود الثقاب في جيبي، فتذكرت أن كلمة «ثوابت» التي تغنت بها المكتنزة أصبحت في بلادي كلمة بذيئة مثلها مثل كلمة عاهرة أو ثورة أو مقاومة!! ربما هذا هو التغيير الذي تحدث عنه هيروقليطس الذي استحم مرةً واحدة في حياته حتى لا يتهم بخيانة أفكاره، وأكمل حياته ساخراً من كل شيء، حتى من الحمير التي لا تفهم بروح الفكاهة.
لا يمكن للإيرلندية المكتنزة أن تفهمني، وبصراحة لا أحد يطالب شخصاً إيرلندياً ساذجاً أن يفهم كيف يفكر فلسطيني أتعبه لجوءه فكره ثابتة ومتغيرة، حتى أنا حين استلمت هويتي ووجدت بأعلاها كلمة «لاجئ» لم أفهم لأي سببٍ أحاسب أنا على جنايةٍ ارتكبها جدي، ظننت للحظة أن الكلمة سقطت سهواً من مذكرات المدعو «تاريخ»، لكن درويش حين قال لي بعد سنواتٍ طوال: «إن التاريخ يسخر من أبطاله وضحاياه»، عرفت أن التاريخ أيضاً يتقن فن السخرية مثله في ذلك مثل هيروقليطس الذي لم يستحم سوى مرة واحدة في حياته.

سألت الإيرلندية المكتنزة أن تبيعني قطعةً من وطنها لأتخلص من لجوئي. لا أدري لكني أفضل أن أخاطر بنفسي وأصبح نصف مواطنٍ إيرلندي ساذج على أن أبقى لاجئاً، رفضت المكتنزة بلؤم ونصحتني أن أشتري شمعةً وأكف عن لعن الظلام، قلت لها: إني لا أملك ثمنها وليس معي سوى عود ثقاب، قالت إذا حافظ على الثوابت.
أنا لم أتخل عن الثوابت يا لئيمة، ما زلت أرفض أن يكتب أحد على خريطة لا تضم صفد اسم فلسطين، لكني أصبحت وحيداً اليوم في منتصف الطريق، من كان يمشي معي تركني على كرسيٍّ من القش وادّعى أنه ذاهبٌ لشراء شمعةٍ قبل حلول الظلام. خدعني. لم يعطني سوى عود ثقابٍ وحيد وذهب ولم يعد.
بحثت عنه فوجدت بركةً من الوحل يستحم بها خنازير قبلوا أن يستحم معهم قطيعٌ من الحمير نكايةً بهيروقليطس.


حتى الخنازير تكره هيروقليطس لأنه تخلى عن ثوابته ولم يستحم سوى مرّة واحدة في حياته.
أما أنا فلن أتخلى عن ثوابتي. لا لشيء مهم فقط لأني أكره أن تتبنى الخنازير قضية الحمير نكايةً بي. أريد فقط قليلاً من الهدوء. وأريد أيضاً أن تسكن هذه الريح. عندها ربما أستطيع أن أشعل عود ثقابي الوحيد لأضيء به وجه وطني علّي أراه كاملاً من دون غرباء ولو لبرهةٍ قصيرة كزمن النشوة، هذا يكفيني أنا، أما الإيرلندية فسأدعها تقرأ ما فاتها من دروس الرجل الذي لم يستحم سوى مرة واحدة في حياته.


ليست هناك تعليقات: