2009/06/29

تائهون في الزمن..

(ياسر قشلق)
وجولةٌ سادسةٌ من الحوار الوطني الفلسطيني، وسيليها سابعة وثامنة.. ولمن يسأل عن نتائج هذه الجولات، نجيب بمنطق المتحاورين نفسه: إن الأمور «لا تعرف» بنتائجها، ذلك أن النتائج ما هي إلا هوامش يقيم الشيطان في تفاصيلها، ومهما بالغنا في الرفع من شأنها لن ترق أبداً لفرحة اجتماع الإخوة الأعداء حول طاولة الأسرة الفلسطينية..



إذاً؛ هي جولة جديدة للحوار ستكون نسبة نجاحها بأحسن الأحوال صفر بالمائة! وهذا ليس تشاؤماً بل أمراً واقعاً، يستند إلى مقابلة ما تم الإعلان عنه نهاية الجولة الرابعة من حصول اختراق إيجابي في القضايا الخلافية الأربع، منظمة التحرير والانتخابات والأمن والحكومة، مع ما أُعلن عنه بعدها من تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة سلام فيّاض، وما تلاه بعد الجولة الخامسة من اعتقالات متبادلة بين كل من فتح وحماس، وعليه نتمنى سلفاً على أي طرف ينوي الحديث عن تقدّم الحوار بين الفصائل بعد هذه الجولة أن يمتنع عن المواربة وتزييف الوقائع، فنحن على يقين أن رحى الحوار لن تطحن غير الهواء. هذا اليقين، المؤسف، من فشل الحوار الفلسطيني الحتمي لا يعود لانعدام الثقة بالأطراف المتحاورة، مع أن كل طرف منها يسعى لامتلاك جلد الدب كاملاً قبل اصطياده، كما لا يعود إلى مجمل التدخلات الخارجية التي حوّلت الحوار الفلسطيني إلى ساحة تجاذبات دولية تصفّى فيها الحسابات العالقة.. فمهما بلغ حجم التأثير السلبي لهذه الأسباب على تقدم الحوار تبقى مجرّد أمور نافلة يمكن تجاوزها بشكل أو بآخر، لكن ما لا يمكن تجاوز تأثيره هنا هو «طبيعة الشخصيّة الفصائلية» نفسها التي تذهب في كل مرّة إلى جلسات الحوار، لتعود وقد حصدت حفنةً من سراب!نتحدّث هنا عن واحدٍ وستين عاماً من عمر النكبة أفلحت تفاصيلها القاسية بإسقاط عامل الزمن، مع كل ما يختزله من أهمية، من «شخصية الفصائل الفلسطينية».هذه «الشخصية» أصبحت اليوم بـ«طبيعتها» غير واعيةٍ أنّ ما يمر عليها من وقت ضائع كفيلٌ بتمييع القضية الفلسطينية المحورية إلى حدود التلاشي، وكأن قضيةً لم تكن!.. ولذلك ليس مستغرباً أن يفشل الحوار، أو أن تعقد الجلسة رقم مائة منه بعد عشر سنين، بل المستغرب بحق هو نجاحه، لأن ذلك ببساطة يتناقض مع منطق «الشخصية الفصائليّة»، التي ستتلاشى هي الأخرى بمرور الزمن نفسه.إن إشكالية «سقوط الزمن» من الوعي الفلسطيني، لا تتوقف عند حدود الشخصية الفلسطينية نفسها، بل تتجاوزها لتتجسد بصورةٍ خطيرة من خلال وعي الآخر لهذا الزمن، وأعني إسرائيل، فعلى طول الفترة الماضية التي شهدت مراوحة الفصائل في جلسات الحوار، سعت إسرائيل إلى تغيير مرجعيات العملية السلمية برمتها، بما فيها «المبادرة العربية للسلام»، وطرحت بدلاً عنها حلول فاجرة كفكرة «السلام الاقتصادي»، وما شابهها من حلول تقصي بمجملها حل الصراع على أساس «قيام دولتين».أكثر من ذلك؛ تحركت إسرائيل في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ خطاب بنيامين نتنياهو، بكل ما تملكه من غطرسة تجاه أوروبا والولايات المتحدة للترويج لمواقفها عبر الإقناع بها حيناً، والتهديد بعدم إشراك أطراف دولية بـ«العملية السلمية» أحياناً أخرى، هذا فضلاً عن تبنيها لأكبر خطة، في تاريخ الصراع، لـ«تهويد القدس» وطرد الفلسطينيين وسحب الهويات وتوسيع المستوطنات.. وكأنّها بذلك، أي إسرائيل، تستبق احتمال النجاح المعدوم أصلاً للتوافق الفلسطيني، بحيث لو قدّر، بعد حين من الدهر، وتوافقت الفصائل على أمرٍ ما، يكون أمراً لا قيمة له، على الأقل، من ناحية أنّ شيئاً لم يعد موجوداً لانتزاعه منها.الأهم من هذا؛ أن «الفصيل الفلسطيني» اليوم لا يعي حقاً في أي زمنٍ يعيش، وهو تائهٌ بين ثلاثة «أزمنة» زائفة، الأوّل: الماضي؛ الذي (كان كائناً)، وهو جملة من الأحلام الطوباوية سُمّيت في يومٍ ما «منطلقات عقائدية» للعمل الثوري، تمثّلت برمي اليهود في البحر وإقامة الدولة على أرض فلسطين التاريخية..الثاني: الحاضر؛ وهو (الكائن الآن)، والذي يرفضه الجميع كـ«فكرة مجردة» لانزياحه الكامل عن محور المنطلقات، على حين يقبله البعض كـ«واقعٍ موضوعي» هو أفضل الممكنات التي لا بديل لها، ويبكيه البعض الآخر بوصفه أرذل العمر في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.الثالث: المستقبل؛ وهو (ما يجب أن يكون)، ولكن هذه المرّة انطلاقاً من رؤية كل فصيل على حدا، وهي رؤية بالرغم من محدوديتها وعدم مطابقتها لوجهات النظر الأخرى، إلا أنها تبقى «مقدّسة» بالنسبة لمتبنيها، ولا يجوز تحت أي ظرف تغييرها أو حتّى المساس بها.اللافت؛ أنه رغم زيف هذه الأزمنة الثلاثة وتخبّط الفصائل في العيش فيها، رغم ذلك، فإن المشكلات التي تفرزها على الدوام مشكلات حقيقية لا يمكن أبداً تجاهلها، فـ(زيف الماضي) أسفر بالضرورة عن أزمة الثقة التي تحياها بعض الفصائل مع الشارع الفلسطيني، سواء في الداخل أم في الخارج، والتي وصلت لحدود الانفضاض عنها، وفقدان الرغبة حتى بمتابعة ما يصدر عنها من مواقف وكأنّها غير موجودة أصلاً على الساحة الفلسطينية، وبالتالي فقدت هذه الفصائل، قبلت بذلك أم لا، مبرّر بقائها كوسيلة للتنظيم الشعبي في صفوفها لمواجهة الآخر الإسرائيلي.كما أن (زيف الحاضر)، أدّى إلى انشقاق الصف الفلسطيني والذي وصل ذروته عام 2007 حين استبيح الدم الفلسطيني، وشُكّلت «الكونفدرالية» التي يُكرّس وجودها الواقعي يوماً بعد يوم.وأخيراً؛ فإن (زيف المستقبل) أدّى إلى استحالة تحقيق الفرقاء أي تقدّم حقيقي في الحوار من شأنه طي صفحة الخلاف وتركها للماضي، فمجرّد التفكير (بما يجب أن يكون) أخرج الحوار عن سياقه الطبيعي وأدخله في متاهات المساومات بين أبناء الهم الواحد، بل إنه أخرج السياسة نفسها من مجالها كـ«فن تحقيق الممكن»، وسجنها في زنزانة «الضرورات المتحجرة».ولأن «الشعوب تُحكم بطبائعها»، فإن طبيعة الفلسطيني اليوم هي المسؤولة أولاً وآخراً عن الجمود السياسي الذي يعتري الساحة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، كما أنها مسؤولة عن كل هدف تحققه إسرائيل ضد القضية الفلسطينية عبر استغلال الخلاف القائم.وإن كان الأمر على هذا النحو، ما الطائل الذي تحصده الفصائل الفلسطينية اليوم من وراء رمي فشلها على شماعة الآخر، سواء أكان فلسطينيّاً أم لا؟.. ألا تستدعي حالة التشرذم والضياع المسيطرة على الساحة الفلسطينية من كل فصيل حريص على بقاء القضية البدء بعملية نقد ذاتي موضوعي، لتصحيح أخطاء الوعي الفطرية، بكل ما علق فيها من تراكمات وما أفرزته من تناقضات، ليواجه الجموح الإسرائيلي غير المسبوق؟ ألم يحن الوقت للتفكير بما يجري بطريقةٍ مختلفة تمنع قدوم يومٍ يستعيد فيه الفلسطيني لقبه كذكرى حدثت في الماضي ولن تحدث من جديد! ألا يستحق الفلسطيني الآن الخروج عن كونه مجرّد تائهٍ في الزمن؟!..

ليست هناك تعليقات: