2009/10/23

آخر الأحزان

(ياسر قشلق )
ما تركت مكاناً على الأرض إلّا وبحثت فيه عن فلسطين ولم أجدها.. بحثت عنها على جبهات القتال.. بين أدبيات المقاومين.. وفي مذكرات الثائرين.. ولم أجدها.. جلست على قارعة الطريق دهراً ألوك فؤادي أن أضعت أمي.. اقتَرب منّي عجوزٌ وهمس في أذني: فلسطينـ«ك» قابعةٌ بغرفة إنعاشٍ في مستشفى عروبي ما.. اذهب إليها فقد تكون الشاهد الأخير على وفاتها!! مضيت عبر ركام التاريخ باحثاً عن مستشفى بلا عنوان كما أخبرني العجوز.. وحين وصلت هناك.. وجدتها مستشفىً عبثيّةً أدمنت إهمال زوارها ومقيميها كبعض الحكومات العربية.. دخلت بهوها المظلم كالقبور غير مصدّقٍ أن فلسطينـ«نا» مقيمةٌ في مكانٍ رخيصٍ كهذا.. كنت أظنها غاليةً على قلب أبنائها.. وأنها تستحق أكثر من رميها بهذه البدائية المتحجرة.. لكني كنت مخطئاً يجهل مشاعر إخوته..



أخذت أسأل الممرضات هناك: - أتعرفون أين أجد مريضةً اسمها فلسطين؟! أتعرفون في أي غرفةٍ مهملةٍ تقيم؟! تجاهلوني.. وتابعوا انشغالهم بتحضير مؤتمرٍ عربي رفيع المستوى لعمليةٍ طارئة.. قلت لنفسي: اعذرهم.. فمؤتمرهم مُشرفٌ على الهلاك.. تابعت البحث وحيداً كما أتيت.. ولم أترك غرفةً في عنبر الموت إلا فتحتها.. فبغرفةٍ أجدني أمام ضميرنا العربي ينتحب ضاحكاً.. وبأخرى وقفت مواجهاً حضرة الموت يغتال كرامتنا المسمّرة بالجنازير.. وصلت أخيراً لبابٍ كتب عليه (احذر العدوى).. لم أحذرها وفتحته لأجد عجوزاً موغلةً بالقدم، حُفر على إضبارتها الشبيهة بمتراسٍ خارجٍ من هزيمة.. فلسطين.. كانت عذبة فلسطين.. كانت عذبة وعذوبتها لم تلقِ بالاً لأخاديد الزمن على محيّاها.. كانت عذبة كغصن زيزفون يتحدى رائحة الموت الكريهة..سألتها وأنا الأكيد منها: - أأنت فلسطين؟! أجابتني وكأنها ملّت تكرار السؤال: - وماذا تراني أفعل بغرفةٍ ملأى بالشعارات المطالبة بعروبتي؟! التفتُّ حولي لأجد: (تحيا فلسطين)، (ثورة حتى النصر)، (الإسلام هو الحل)، (فلسطين لنا)، (عائدون)... قلت لها: - لعلّكِ اغتصبتِ المكان؟!! ضحكت فلسطين، ضحكت حتى بانت بحيراتها، وسألتني: - من تكون؟ - أنا ابنك! أتنكر أمٌّ ابنها؟!تنهّدت وكأنها تهزأ مني: - الجميع يدّعون أنهم أبنائي، فقل لي: لماذا لم أرهم منذ ستين عاماً؟!.. نَظرت إلى ساعةٍ دون عقارب زرعت عند قدميها.. التفتت إلي: - حان الموعد.. أعطني دوائي المخدر.. واتركني لراحتي الأبدية.. واذهب إن شئت لتكمل (صراع السراب) مع باقي إخوتك ممن يدعون بنوّتي.. - من يدّعي بنوّتك؟! - من كانوا يوماً عرباً.. ودخلوا كنيست من اغتصبني ليدافعوا عنّي!! أخجلتني أمي.. أخجلتني ولم أجد إلا إنكاري لهم إجابةً لها.. دنوت من طاولة الأدوية لأجد أصنافاً منها ما عهدتها يوماً.. فعلبةٌ حملت اسم (فتح)، وأخرى (الجبهة)، وثالثةٌ كانت باسم (الإخوان)، ورابعة لـ(اليسار).. سألتها: - هل استخدمتها؟! - ولم يفلح أي منها.. انتهت صلاحيتها دون أن أستكين حتى.. - وما اسم دواؤك المخدّر؟! - (الوحدة)!! - (الوحدة العربية)؟! - لا هذا دواء مفقود.. دوائي هو (الوحدة الفلسطينية)!أطرقت بحزن: - عذراً أمي! عذراً.. إن كانت (الوحدة العربية) مفقودة، فالفلسطينية لم تصنع بعد! - أخبرني.. كيف هي ابنتي رام الله؟! - تزوجّت! - ممن؟! - من ناشطٍ يهودي يحبّك كثيراً!.. - وغزة؟! - هي أيضاً تزوجت.. ولكن من إمام مسجد..! - هل يعاملها جيّداً..؟ - بالتأكيد.. ولكن شرط ألا يطارده أحد! - ومن يطارده؟! - الجميع.. الجميع دون استثناء فهو بنظرهم إرهابي..! - والقدس؟! - القدس عروس عروبتنا! - إذاً هي بأسوأ حال.. - والأقصى أصبح اسمه سليمان.. وبين الحين والآخر يرسل لي بطاقةً بريدية عبر الصليب الأحمر يخبرني فيها أنه لا زال حيّاً.. - الحمد لله..!! - وشهداؤكِ الأبرار أصبح لهم أسهماً في البورصة!.. ولكن لأطمئنك لا زلنا نقاوم؟! - أين؟! - في الأنفاق!! - من تقاومون بالأنفاق؟! - الجوع يا أمي.. الجوع..! - والجيوش العربية؟! - على أهبة الاستعداد للمعركة الكبرى! - أي معركة؟ - تحرير إيران من الإيرانيين.. وتركيا من الأتراك.. - بوركتم!! قل لي: لمَ لم تلبس الكوفية؟! - لا أستطيع! فبعد أن احتكرت صناعتها «فرزاتشي» أصبحت موضة باهظة الثمن بالنسبة لنا!! دعك الآن من كل هذا.. واسمحي لي أن آخذك إلى بيتنا الجديد! ابتسمت فلسطين.. ابتسمت حتى تجهّم وجهها.. - هل هو جديد لحدود الرغبة بقتل بعضكم البعض..؟! أم جديد لدرجة جلوس الصهاينة على موائد إفطار رمضان..؟! اذهب بني.. اذهب فقد مللت بيوتكم.. مللت امتهانكم السراب.. مللت تحزّبكم وتصنعكم الرخيص أنكم تحرصون علي.. أجبتها وغراب فقدها مجدّداً يحوم حولي: - أمي.. بيتنا الجديد.. لا هوية له سوى أنتِ.. لا انتماء فيه إلا إليك.. بيتنا..قاطعتني: - إن أردت أن أمضي معك.. امسح شعار (فلسطين لنا) من فوق رأسي.. فأنا لست شيئاً رخيصاً يبحث عمّن يملكه.. بدأت أمسحه وأنا أترحم على زمنٍ كان فيه درويش يجمع كل قادتنا وخلافاتهم تحت قبة قصيدة.. وأتحسر على دماء شهدائنا العاجزة عن جمع فصيلين مختلفين تحت قبة مجلس واحد.. التفت إلى فلسطين فرأيتها وقد بدأت الدخول في سكونها الفوضويّ.. أسملت عيونها.. ورفعت غطاءها.. وصوت درويش يحاصرني: - نامي قليلا.. وتفقدي أزهار جسمك هل أصيبت..؟ واتركي كفي وكأسي شاينا ودعي الغسيلا.. نامي قليلا.. خرجت من المستشفى أنا ودرويشي الذي أبى إلا وأن يكمل قصيدته: - يا خالقي في هذه الساعات من عدمٍ تجلى.. لعل لي ربٌّ لأعبده لعلّا.. لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن «فلسطين» ثكلى..

ليست هناك تعليقات: