2009/11/04

الطفرة والتطور في المجتمع الفلسطيني

(ياسر قشلق | )
إن أبسط المتابعين لما يدور اليوم على الساحة السياسية الفلسطينية لا بد وأن يخلص لنتيجةٍ تفيد بأن الصراع الدائر بين مختلف الفصائل والمنظمات ما هو إلا «صراعٌ كيدي» لا يمت للحراك السياسي بأية صلة، وبأفضل الأحوال هو صراعٌ عقائدي ذو جذور أيديولوجية تبدو في ظله القضية الفلسطينية قضية ساكنة متحجرة كأحفور يحمل لونين ترابيين باهتين «فتح» من جهة و«حماس» من جهة أخرى. 

ورغم أن مقارنة التجربة الفلسطينية الراهنة مع باقي دول العالم، التي يتم فيها تداول السلطة بشكل صحي، مقارنة ظالمة على كافة الأصعدة والوجوه، إلا أنها تفيد هنا بإظهار الوضع المؤسف الذي يسيطر على الساحة الفلسطينية منذ سنين طويلة، والذي يغيب معه أي أملٍ يلوح في الأفق المنظور من شأنه إفساح المجال لظهور أحزاب فلسطينية جديدة قادرة على إعادة ضخ الدماء بالقضية الفلسطينية «المحنطة» منذ سنين بأيدي الفصائل الفلسطينية صاحبة الأيديولوجيات العتيدة.
من المؤكد أن شعب فلسطين «شعب حي» بكل معاني الكلمة السياسية والثقافية.. وهو متفوق بذلك على كثير من شعوب المنطقة والعالم، وهذا الكلام ليس إنشائي بغرض إثبات ما أنا ذاهب إليه، إنما هو خلاصة دراسات وإحصاءات مؤسسات أوروبية عريقة على مدار سنوات طويلة. أيضاً من المؤكد أن بين أبناء فلسطين بديل أكثر جدارة بحل تعقيدات القضية الفلسطينية من المسيطرين على إرادتها اليوم.

إذاً؛ والحال كذلك، أين هي الحلقة المفقودة في هذا السكون المنذر بنسف القضية الفلسطينية من جذورها؟ ومن المسؤول صراحةً عن غياب تنوع الألوان عن ساحة فلسطين السياسية؟! أيضاً وأيضاً؛ من حوّل فلسطين لملعب «كرة قدم أميركية» لا يمكن للاعب فيها أن ينتزع الكرة من خصمه دون طرحه أرضاً والدوس عليه؟!
لشد ما تبدو عليه الإجابة معقدة على هذه الأسئلة المشكلة، لشد ما هي في الحقيقة بسيطة وواضحة إذا ما جرى البحث عنها في التركيبة الفلسطينية ذاتها التي أفرزت الفصائل الحالية، والسؤال «البنيوي» الذي لا بد من طرحه قبل الإجابة على ما سبق هو:

هل ظهور الحركات الحالية كان نتيجة لـ«تطور» المجتمع الفلسطيني؟
لو تمعنا بتاريخ المجتمع الفلسطيني ندرك تمام الإدراك أن مجتمعاً يضم بين ظهرانيه مثقفين نخبويين بمشارب متنوعة وأصيلة، ويفوقون عدداً –نسبياً- مثقفي كثير من الدول الأوروبية المتقدمة لا يمكن له أبداً أن يفرز حركات «عشائرية» منطقها الوحيد «نفي الآخر» كائناً من يكون. 
إن هذه الحركات ليست سوى «طفرة» في المجتمع الفلسطيني ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال نتيجة «التطور الطبيعي» له، وكما أن ظهورها لا يدل على «أصالتها»، أيضاً بقاءها لا يدل أبداً على «قوتها».
وبالعودة للإجابة على الأسئلة السابقة استناداً إلى ما سلف، نجد أن ظهور «الطفرة» في المجتمع يتحول إلى حجر عثرة بوجه تطوره الطبيعي الناجم عن حراكه الثقافي والسياسي والاقتصادي، حتى وإن كانت هذه الطفرة إيجابية من قبيل إرسال دولة نامية لا تعرف حدودها لقمر صناعي لتستكشف به العالم، فإنها تبقى رغم ذلك «غريبة» عن «بنية المجتمع» تحمل لوناً باهتاً من ألوانه التي لا تنضب، هذا أولاً، وثانياً والأهم هي ذاتها غير قادرة على تطوير نفسها لتتوافق مع بنيته لافتقار تركيبتها لآليات فعل ذلك.

وبالمقارنة مع الوضع الفلسطيني أعتقد أن حاله لا تختلف أبداً عن هذه المقاربة سوى بتفاصيل هامشية ليست على قدرٍ كبير من الأهمية، فظهور الحركات الفصائلية كان «طفرة» نجمت عن غياب فاعلية «الآخر المختلف» الذي لم يسمح له سياق «تطور المجتمع» بحضور فاعل، والمصيبة هنا هي: أن ظهور هذه الحركات لم يسمح إلا بظهور أخرى على شاكلتها تمارس الأيديولوجية العقيمة ذاتها بمسميات مختلفة، وهي في نهاية الأمر حركات عرجاء تسير على قدم واحدة رغم أن الجميع يمد لها يد العون لتستقيم دون أي أمل.

وبالنتيجة النهائية؛ وقعت جميع الحركات الموجودة منذ عشرات السنين في مطب فكرها العقيم، فلا هي استطاعت التطور لتتوافق مع الحراك الحاصل في مجتمعها وفي العالم، ولا هي مارست الحراك السياسي مع المختلف عنها والذي منعته من البروز إلى العلن بعد أن أفرزه تطور المجتمع كاستحقاق يليق بحمل راية الشعب الفلسطيني.
ويبقى السؤال الأصعب معلّقاً برسم فصائل الصراع؛ إلى متى سيستمر القتال على وطنٍ يتسع لكل شيء، لقادة أيديولوجيات ولمتعصبين يناصروهم ولقتلى أو مشاريع قتلى هم وقود غلوهم وتطرفهم الموجه ضد بعضهم البعض، ولا يتسع لفكرة أو حتى لكلمة مختلفة..؟!

ليست هناك تعليقات: