(ياسر قشلق)
لا يمر أسبوعٌ في المفكرة الفلسطينية إلا وفيه عيدٌ ما من الأعياد. تتمايز عن بعضها بالاسم والنوع، وطنية ودينية وأخرى عالمية، وتتوحّد بالحزن كأنها عيدٌ واحدٌ يتكرر على مدار السنة. أقترح، مع أنه "لا رأي لمن لا يطاع"، أن نستعيض عن جميع هذه الأعياد، المكلفة مادياً والمضنية نفسياً، بعيدٍ واحدٍ نسميه "عيد الحزن الفلسطيني" نجتمع فيه بالساحات العامة ونبكي حتى "النهنهة" من طلوع الشمس حتى مغيبها. ولنترك باقي السنة لعمل أي شيءٍ آخر قد يكون مفيداً كانتظار عبور الحواجز الإسرائيلية، أو عديم الفائدة كانتظار عبور الحواجز الإسرائيلية! والسلام على المرسلين.
أوليس أمراً يدعو إلى العجب أن تخلو مفكرتنا من ذكرى تستدعي الفرح؟! نمتلك أطول قائمة "أعياد وطنية" في العالم لكنها جميعاً بلا طعم سوى طعم الحزن! نحتفل بذكرى انطلاقة "الثورة الفلسطينية المعاصرة" في الأول من كانون الثاني لنحزن. وبذكرى الانتفاضة الأولى في كانون الأول نحتفل ونحزن. وبذكرى انتفاضة الأقصى في أيلول كذلك الأمر. وفي يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني في تشرين الثاني. وفي ذكرى النكبة. ووعد بلفور ويوم الأسير ويوم الشهيد ويوم الأرض.. وتطول قائمة الأعياد أكثر من هذا بكثير دون أي فرق.. كلها حزينة!!
في "الأعياد الدينية" لا يختلف الأمر. في عيد الفطر نتذكر أننا لا نفطر على وطن ونحزن. في عيد الأضحى نستلهم صورة الأضحية لنتذكر أننا ضحايا ونحزن. في عيد الميلاد ندمج عذابات السيد المسيح في عذاباتنا ونصلب أنفسنا حزناً. وفي عيد المولد النبوي الشريف نحيي احتفالاً مريراً ونحزن، علماً أنها ليست مناسبة تستدعي الحزن!!
وفي بدر والخندق وحطين.. نحتفل ونحزن. وحين يمر أسبوع دون عيدٍ حزين نحزن. ننفض الغبار عن أعيادٍ طواها التاريخ لنستدرك حزننا.. نحن الشعب الوحيد الذي يحتفل بذكرى سقوط غرناطة لا لشيء فقط ليحزن. بالمناسبة ثمة قصيدة عذبة للراحل الكبير محمود درويش بهذه الذكرى اسمها "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، روعتها أنها تقطر حزناً.
عالمياً؛ في عيد الشجرة نبكي أشجار الزيتون. في عيد الأم ننوح على الأرامل والثكالى. في يوم المرأة نتذكر كيف تلد نساءنا على حواجز القطعان الصهيونية. في يوم الطفل يحترق كبدنا على محمد الدرة..
حتى "الأعياد الصهيونية"، بوريم وبيساح ورأس السنة العبرية وعيد استقلالهم المزور وذكرى الهولوكوست..، ربطناها بمآسينا وأطلقنا عليها لقب "أعياد الدم والشهادة", أصبح لدينا "باكيج" كامل من المناسبات السنوية الكئيبة التي نتذكر فيها ضحايانا على أيدي قطعان المستوطنين.. ونحزن.
لماذا نحن شعبٌ حزين؟!
من المؤكد أن قصتنا مع الحزن بالأساس عدوى اجتماعية، مجتمع جوّه العام سوداوي ومأساوي ومدمّر... فلا بد وأن يرخي بظلاله على وجدان أبنائه. لكني أعتقد أن هذا الحزن تأصل فينا لدرجةٍ أجزم معها أن "DNA" الفلسطيني بات معجوناً بالكآبة مثل كعك العيد.
في الأضحى الماضي شاهدت على إحدى الفضائيات تقريراً عن ساحات العيد في غزة، سأل المراسل طفلاً في حدود العاشرة: ماذا تفعل في العيد؟ أجاب، بجدية لا تناسب عمره، "بصحا عشان ألعب وبعدين بساعد أبوي بالحفر"، يقصد حفر الأنفاق. سأل آخر، فأجاب: "ولا إشي.. بعطّل عن المدرسة".
من أين لهذا الشعب كل هذا الحزن إن لم يكن متوارثاً؟!
الطريف أن صورتنا النمطية هذه باتت أكثر رسوخاً بوجدان الشعوب الأخرى، فعدا عن صورتنا النمطية العامة كعرب، والتي نبدو فيها جميعاً "بدو إرهابيين"، ينفرد الفلسطيني بصورة أكثر خصوصية، الرجل الفلسطيني غالباً ما يصور على أنه ذاك الثائر الحزين صاحب الكوفية "المطعوجة" والبدلة الكورية الخضراء "الفوتيك" والبندقية الصدئة، والمرأة على أنها صاحبة الثوب المطرز والتي تجلس دائماً خلف التنور لتدس حزنها في خبزه السميك!!
قبل أيام كنت في بيروت أتابع احتفال فلسطينيي الداخل بعيد العمال، وبالمناسبة كانوا خلاله ينددون ويرفضون ويستنكرون ويطالبون.. كانوا حزانى كعادتهم، المهم زارني أحد الأصدقاء الفرنسيين، قال لي مستغرباً وهو يشير إلى التلفاز: "إنهم يحتفلون بعيد العمال!!" نظرت إليه مستهجناً، فاستدرك: "حسناً نحن لا نراهم يعملون حتى يحتفلوا بهذا العيد.. هذا ما يصلنا على الأقل". معه حق نحن بنظر العالم بأسره فريقان: فريقٌ من "الشهداء والأسرى" وآخر من اللاطمين الحزانى على استشهادهم الغاضبين لأسْرهم، هكذا حاولت قياداتنا أن تنمطنا على الدوام، وهكذا سوقتنا "إسرائيل" لوسائل الإعلام العالمية مع إضافاتها الخاصة فأصبحنا "إرهابيون يعشقون الانتحار الحزين"!!
ربما الحل لحزننا هذا هو إدخال مهرجان على النمط الأوروبي إلى تراثنا الفلسطيني، تخيلوا مثلاً "مهرجان يافا للبرتقال". ينزل الفلسطينيون إلى الشوارع بسلال "البرتقال اليافاوي" ويتقاذفونه حتى تتغير ألوان المدينة من لون الطوب الباهت إلى "الأورانج" الفاقع الذي "يفرفح" القلب. تخيلوا سرور سلام فياض صاحب مشروع "المقاومة فكاهة" -هو أراد مشروعاً نداً لـ"الحياة تفاوض" ففصلت له إسرائيل هذا المشروع- بهذا النوع الجديد من "كوميديا البسالة".
الخشية أن يتغلب الموروث الفلسطيني على الدخيل الأوروبي ويستبدل البرتقال بالحجارة، لا أعتقد حينها أن فياض سيكون مسروراً برأسٍ أحمر بدل البرتقالي.
أختم بقصة، منذ مدة كنت ذاهباً إلى عملي، بوصفي عامل، وأنا بالسيارة كان هناك مسابقة على الإذاعة عن الأمة التي لا يوجد عندها "عيد استقلال"، أشرقت عيناي للحظة، قلت في نفسي "جيد نحن أمةٌ لم نستقِل يوماً.. لقد فوتنا عيداً للحزن". سرعان ما أجابت المذيعة: بريطانيا! تذكرت أن الراحل عرفات أعلن من الجزائر استقلالنا عام 1988. لا أدري وقتها عمّن استقلّينا حتى أصبحت لنا هذه الذكرى الحزينة، سامحه الله.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، تقترب ذكرى النكبة في الخامس عشر من شهر أيار الجاري. سنحزن حتى آخر دمعة!
لا يمر أسبوعٌ في المفكرة الفلسطينية إلا وفيه عيدٌ ما من الأعياد. تتمايز عن بعضها بالاسم والنوع، وطنية ودينية وأخرى عالمية، وتتوحّد بالحزن كأنها عيدٌ واحدٌ يتكرر على مدار السنة. أقترح، مع أنه "لا رأي لمن لا يطاع"، أن نستعيض عن جميع هذه الأعياد، المكلفة مادياً والمضنية نفسياً، بعيدٍ واحدٍ نسميه "عيد الحزن الفلسطيني" نجتمع فيه بالساحات العامة ونبكي حتى "النهنهة" من طلوع الشمس حتى مغيبها. ولنترك باقي السنة لعمل أي شيءٍ آخر قد يكون مفيداً كانتظار عبور الحواجز الإسرائيلية، أو عديم الفائدة كانتظار عبور الحواجز الإسرائيلية! والسلام على المرسلين.
أوليس أمراً يدعو إلى العجب أن تخلو مفكرتنا من ذكرى تستدعي الفرح؟! نمتلك أطول قائمة "أعياد وطنية" في العالم لكنها جميعاً بلا طعم سوى طعم الحزن! نحتفل بذكرى انطلاقة "الثورة الفلسطينية المعاصرة" في الأول من كانون الثاني لنحزن. وبذكرى الانتفاضة الأولى في كانون الأول نحتفل ونحزن. وبذكرى انتفاضة الأقصى في أيلول كذلك الأمر. وفي يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني في تشرين الثاني. وفي ذكرى النكبة. ووعد بلفور ويوم الأسير ويوم الشهيد ويوم الأرض.. وتطول قائمة الأعياد أكثر من هذا بكثير دون أي فرق.. كلها حزينة!!
في "الأعياد الدينية" لا يختلف الأمر. في عيد الفطر نتذكر أننا لا نفطر على وطن ونحزن. في عيد الأضحى نستلهم صورة الأضحية لنتذكر أننا ضحايا ونحزن. في عيد الميلاد ندمج عذابات السيد المسيح في عذاباتنا ونصلب أنفسنا حزناً. وفي عيد المولد النبوي الشريف نحيي احتفالاً مريراً ونحزن، علماً أنها ليست مناسبة تستدعي الحزن!!
وفي بدر والخندق وحطين.. نحتفل ونحزن. وحين يمر أسبوع دون عيدٍ حزين نحزن. ننفض الغبار عن أعيادٍ طواها التاريخ لنستدرك حزننا.. نحن الشعب الوحيد الذي يحتفل بذكرى سقوط غرناطة لا لشيء فقط ليحزن. بالمناسبة ثمة قصيدة عذبة للراحل الكبير محمود درويش بهذه الذكرى اسمها "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، روعتها أنها تقطر حزناً.
عالمياً؛ في عيد الشجرة نبكي أشجار الزيتون. في عيد الأم ننوح على الأرامل والثكالى. في يوم المرأة نتذكر كيف تلد نساءنا على حواجز القطعان الصهيونية. في يوم الطفل يحترق كبدنا على محمد الدرة..
حتى "الأعياد الصهيونية"، بوريم وبيساح ورأس السنة العبرية وعيد استقلالهم المزور وذكرى الهولوكوست..، ربطناها بمآسينا وأطلقنا عليها لقب "أعياد الدم والشهادة", أصبح لدينا "باكيج" كامل من المناسبات السنوية الكئيبة التي نتذكر فيها ضحايانا على أيدي قطعان المستوطنين.. ونحزن.
لماذا نحن شعبٌ حزين؟!
من المؤكد أن قصتنا مع الحزن بالأساس عدوى اجتماعية، مجتمع جوّه العام سوداوي ومأساوي ومدمّر... فلا بد وأن يرخي بظلاله على وجدان أبنائه. لكني أعتقد أن هذا الحزن تأصل فينا لدرجةٍ أجزم معها أن "DNA" الفلسطيني بات معجوناً بالكآبة مثل كعك العيد.
في الأضحى الماضي شاهدت على إحدى الفضائيات تقريراً عن ساحات العيد في غزة، سأل المراسل طفلاً في حدود العاشرة: ماذا تفعل في العيد؟ أجاب، بجدية لا تناسب عمره، "بصحا عشان ألعب وبعدين بساعد أبوي بالحفر"، يقصد حفر الأنفاق. سأل آخر، فأجاب: "ولا إشي.. بعطّل عن المدرسة".
من أين لهذا الشعب كل هذا الحزن إن لم يكن متوارثاً؟!
الطريف أن صورتنا النمطية هذه باتت أكثر رسوخاً بوجدان الشعوب الأخرى، فعدا عن صورتنا النمطية العامة كعرب، والتي نبدو فيها جميعاً "بدو إرهابيين"، ينفرد الفلسطيني بصورة أكثر خصوصية، الرجل الفلسطيني غالباً ما يصور على أنه ذاك الثائر الحزين صاحب الكوفية "المطعوجة" والبدلة الكورية الخضراء "الفوتيك" والبندقية الصدئة، والمرأة على أنها صاحبة الثوب المطرز والتي تجلس دائماً خلف التنور لتدس حزنها في خبزه السميك!!
قبل أيام كنت في بيروت أتابع احتفال فلسطينيي الداخل بعيد العمال، وبالمناسبة كانوا خلاله ينددون ويرفضون ويستنكرون ويطالبون.. كانوا حزانى كعادتهم، المهم زارني أحد الأصدقاء الفرنسيين، قال لي مستغرباً وهو يشير إلى التلفاز: "إنهم يحتفلون بعيد العمال!!" نظرت إليه مستهجناً، فاستدرك: "حسناً نحن لا نراهم يعملون حتى يحتفلوا بهذا العيد.. هذا ما يصلنا على الأقل". معه حق نحن بنظر العالم بأسره فريقان: فريقٌ من "الشهداء والأسرى" وآخر من اللاطمين الحزانى على استشهادهم الغاضبين لأسْرهم، هكذا حاولت قياداتنا أن تنمطنا على الدوام، وهكذا سوقتنا "إسرائيل" لوسائل الإعلام العالمية مع إضافاتها الخاصة فأصبحنا "إرهابيون يعشقون الانتحار الحزين"!!
ربما الحل لحزننا هذا هو إدخال مهرجان على النمط الأوروبي إلى تراثنا الفلسطيني، تخيلوا مثلاً "مهرجان يافا للبرتقال". ينزل الفلسطينيون إلى الشوارع بسلال "البرتقال اليافاوي" ويتقاذفونه حتى تتغير ألوان المدينة من لون الطوب الباهت إلى "الأورانج" الفاقع الذي "يفرفح" القلب. تخيلوا سرور سلام فياض صاحب مشروع "المقاومة فكاهة" -هو أراد مشروعاً نداً لـ"الحياة تفاوض" ففصلت له إسرائيل هذا المشروع- بهذا النوع الجديد من "كوميديا البسالة".
الخشية أن يتغلب الموروث الفلسطيني على الدخيل الأوروبي ويستبدل البرتقال بالحجارة، لا أعتقد حينها أن فياض سيكون مسروراً برأسٍ أحمر بدل البرتقالي.
أختم بقصة، منذ مدة كنت ذاهباً إلى عملي، بوصفي عامل، وأنا بالسيارة كان هناك مسابقة على الإذاعة عن الأمة التي لا يوجد عندها "عيد استقلال"، أشرقت عيناي للحظة، قلت في نفسي "جيد نحن أمةٌ لم نستقِل يوماً.. لقد فوتنا عيداً للحزن". سرعان ما أجابت المذيعة: بريطانيا! تذكرت أن الراحل عرفات أعلن من الجزائر استقلالنا عام 1988. لا أدري وقتها عمّن استقلّينا حتى أصبحت لنا هذه الذكرى الحزينة، سامحه الله.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، تقترب ذكرى النكبة في الخامس عشر من شهر أيار الجاري. سنحزن حتى آخر دمعة!
هناك تعليق واحد:
صدقت حتى اذا صدف وضحكنا نقول الله يستر
انت انسان في زمن ندرت فبه الانسانيه
بارك الله فيك
إرسال تعليق