2013/09/20

رحلة البحر.. الأخيرة!!

(ياسر قشلق )


كم مرّةً تريد أن ندعوك لتستجيب لنا يا صاحب الدعوة الحكيم..؟! كم سنةً تريد أن نصرخ تحت أعتابك صاغرين لتعرف كم نحن ضعفاء إليك..؟! كم طعنةً سيحتمل هذا القلب قبل أن ينزف يأساً يُسدل الستار الأخير على وطنٍ غارقٍ في الحمّى..؟! كم ألماً ستحتمل الذاكرة قبل أن تضيع في مهب الذكريات..؟! كم رحيلاً يلزمنا لنعرف وجهتنا الأخيرة..؟! كم وكم..؟! أجبني أنت يا صاحب الدعوة الحكيم. 


ستين سنةً ندعوك: أيا ربّي شتِّت شمل اليهود، فيتَشتت يا ربي شملنا. ستين سنةً ندعوك: أيا ربّي أهلك نسلهم، فيَهلِك يا ربي نسلنا. يتّم أطفالهم.. احرق زرعهم.. امحقهم.. اسحقهم.. أيا ربّي: أندعو على أنفسنا لنستريح؟!! أم أن اليهود دعواهم مستجابة تبطل دعوانا؟! وآخر دعوانا.. أن أجبني أنت يا صاحب الدعوة الحكيم.

هل تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؟! أم أن السفن تجري بما لا يشتهي راكبوها؟! لعلّها تكون مؤامرةً جديدةً نسجتها الريح والبحر، ونفذتها سفنٌ خرقاء تعّهدت أن تحمل أبناء شعبي نحو بلادٍ موحشةٍ باردة لا يذكر فيها اسم فلسطين. سفنٌ تحملهم لبلادٍ يسلّمون فيها مفتاح العودة مقابل كرت إعاشةٍ أحمر يدخلهم كلَّ أصقاع الدنيا إلا فلسطين. 

قبل سنوات كنت أشتري السفن لأفك حصار عدوّي عن غزة. قبل سنواتٍ كان يلومني الصديق ويحاربني العدو لأخرق سفني وأغرق من فيها. قبل سنواتٍ كنت أقول لليهود صادروا ما شئتم من سفني، فهذه السفن ستكون توابيت عودتكم إلى المواخير التي خرجتم منها. قبل سنواتٍ كان عندي أمل أن البحر صار حليفي وأن الريح بدأت تصفر ألحان العودة الأخيرة! واليوم.. وأنا أشاهد إجرام البحر فيك أيها الشعب الشريد، أسأل نفسي: كم سفينةً كان يلزمني لأروّض هذا البحر ليحمل شعباً إلى وطنه؟! أجبني أنت يا صاحب الدعوة الحكيم. 

الشعوب العربية خرجت فرحل عنهم القادة. شعبنا لم يخرج على أحدٍ لكن قادته آثروا أن يرحل إلى منفىً جديد. 

اعذرينا يا فلسطين فأحلامنا أصبحت أكبر منك. حلمنا اليوم أن نصل إلى شواطئ إيطاليا لنمضي إلى أرض الميعاد: السويد. ربما سقطت أنت من حلمٍ أتعبه الرحيل. وربما لم تكوني موجودةً أصلاً. وربّما تعب التاريخ أن يبقيك معلّقةً بين الظنِّ واليقين. وربما سقطت سهواً من جيب دلال مغربي في ذاك البحر نفسه يوم خرجت لتبصق بوجه أشرف قادتنا. 

أمّا أنت أيها الشعب المبحر في رحلة الشقاء، فتذوق طعم إنسانيتك. تذوق كيف يصبح الفلسطينيّ إنسان. تذوق كيف يأخذ لقمته دون أن يكون عبداً لأحد. ودون أن يكون تابعاً لأحد. هي رحلة شقاءٍ أخيرة، وبعدها يلفحك هواء الحرية البارد. اكتب على بابك صفد. وعلى باب جارك طبريا. اكتب بحروفٍ غاضبة عاشت السويد. عاش الملك غوستاف. اكتب أنا سويدي وجواز سفري أصبح أحمر. اكتب هيهات منّي الذلة بعد الآن أيها العرب. اكتب والقي ما تكتبه في قوارير في البحر لتبعثرها الريح في الدنيا كما بعثرتك. اكتب واغضب.. كما غضب عليك البحر. 

وارجع يوماً.. ارجع عندما يصبح اليسار يمين، واليمين يسار. ارجع عندما تتعلم الفرق بين الجامع والجامعة. عندما تعرف أن المقاومة بندقيةٌ وقلم في يدٍ شريفة. ارجع عندما يصبح الاستشهاد لأجل فلسطين أجلّ عندك من الاستشهاد لأجل السويد. 

لو أن هذا الرحيل حصل بعد عامين من نكبتنا لكان الأمر محتمل. أما وأنه حصل بعد خمس وستين عاماً (...) فأفوض أمري إليك يا صاحب الدعوة الحكيم! 

وألف شكرٍ لقادتنا.. وأعدهم أن هذا البحر نفسه الذي شرّد أبناء شعبي من أرضهم سيعيدهم مرةً جديدةً إليها. وسيحملهم وقطعان اليهود إلى مواخير الفناء.. في رحلة البحر الأخيرة.

ليست هناك تعليقات: